مفهوم العامل
إن التفريق بين مفهومي بروليتارية وعامل ليس بالأمر الحاصل بين عموم الناس، فالمصطلحان يستندان إلى مفهوم الطبقة الاجتماعية التي عرّفها لينين ضمن نص شهير صدر سنة 1919 بعنوان المبادرة الكبرى. وقد اعتمد هذا التعريف على ثلاثة معايير:
الموقع المحتل ضمن عملية الإنتاج الذي يحدد نظام تجزئة للمهام وللأدوار،
العلاقة بوسائل الإنتاج التي تحدد نمط خلق نتاج زائد وتملكه وذلك بصفة أشمل من تحديد وضع قانوني معين،
الدور في تنظيم العمل الذي يضع خطة مفصلة لطرق ممارسة الوظائف والحصول على جزء محدد من الناتج الاجتماعي
نجد في النظام الرأسمالي خاصة إذا اقتصرنا على تحليل ينطلق من نمط الإنتاج طبقتين جوهريتين: طبقة تُخلق بواسطتها القيمة الزائدة وطبقة أخرى تتملك هذا الفائض لأنها تتمتع بملكية وسائل الإنتاج. وهكذا هل يمكن القول بأن مصطلحات طبقة عمالية وبروليتارية وعمال مترادفة؟ في الواقع هناك عدة تفسيرات تجعل منها مفاهيم متباينة. يمكن أولا اعتبار الطبقة العمالية بمثابة المفهوم النوعي الشامل لكل المجبرين –لكي يعيشوا- على بيع قوة عملهم والإسهام مباشرة في خلق القيمة الزائدة وذلك نظرا لحرمانهم من وسائل الإنتاج. فإذا اعتبرنا الطبقة في حد ذاتها نتحدث عند ذلك عن العمال وإذا اعتبرنا الطبقة لذاتها نستعمل إذا مصطلح بروليتارية.
وهكذا يكون البروليتاري ذلك العامل الذي يضف لانتمائه الطبقي الوعي بهذا الانتماء، هذا الوعي الذي يبلغ أوجه بتأسيس حزب بروليتاري. إن النصوص العديدة تعطي هذا التفسير الذي يخصص في أقصى الحالات مصطلح عامل لتحليل حالة موضوعية ويربط مصطلح بروليتارية برسالة أخلاقية تختص بها الطبقة العمالية. ويحدد تفسير ثان استعمال كل مصطلح استعمالا خاصا بميادين تحليل محددة: فاعتمادا على الواقع الاجتماعي الواحد وإذا نظرنا له من زوايا مختلفة يمكن إذا استعمال مفهوم الطبقة العمالية لحصر عداوات سياسية واستعمال مفهوم البروليتارية لوضع تفسير فلسفي للتاريخ واستعمال مفهوم العامل لإبراز حالة اقتصادية خصوصية.
إن هذا التفسير الثاني الذي يمكن أن يجد مجاله المرجعي في النص الشهير للينين حول العناصر الثلاثة المكونة للماركسية –الاشتراكية الفرنسية، الفلسفة الألمانية والاقتصاد السياسي الانكليزي- قد نتأكد منه ونصدقه من خلال تتبع (استعمال ماركس) للمصطلحات في هذا الشأن حيث إنه إذا ورد مصطلح بروليتارية بكثرة ضمن ما يسمى بمؤلفات الشباب لماركس فإنه يفسح المجال غالبا لمصطلح العامل ضمن مؤلف رأس المال- وذلك تطابقا مع القاعدة التي تقر بأن الاقتصاد السياسي لا يعتبر البروليتاري إلا من حيث هو عامل. ويتبين لنا من خلال هذا التتبع أيضا الميل إلى استعمال مصطلح طبقة عمالية ضمن المؤلفات المنعوتة بالسياسة أو ضمن الأعمال الصحفية. وأخيرا هناك تفسير ثالث يقترب أكثر من «الاقتصادوية» يخصص مصطلح عامل للشغال المنتج للثروات المادية (الإنتاج بصفة عامة) والقيمة الزائدة (الإنتاج الرأسمالي) دون غيره من الشغالين ويسمح هذا التفسير بالتمييز بين العامل ومجموعات أو أصناف اجتماعية قريبة منه ومستأجرة هي أيضا ويمكن أحيانا أن تكون أشكال عملها الملموسة متشابهة شيئا ما.
ويمكن تقسيم العمال من حيث هم مقولة سوسيولوجية إلى عدة أصناف أو فئات خاصة أو شرائح مستقلة وليس للرسوم التصنيفية التي يمكن وضعها من خلال معايير متنوعة فائدة بيداغوجية فحسب بل هي أكثر من ذلك تسمح بحصر أفضل لـ«تعقد شبكة العلاقات الاجتماعية والانتقال من طبقة إلى أخرى». وهكذا يمكن التفريق حسب قطاع النشاط بين عمال الصناعة وعمال فلاحيين. وقد كان العمال الفلاحيون محل اهتمام ماركس عندما درس الريع العقاري في الكتاب الثالث من مؤلف رأس المال أو عند وصفه للصيغ الملموسة للتراكم البدائي في الكتاب الأول من المؤلف نفسه. وإذا وضعنا أنفسنا ضمن آفاق تحليلية أكثر تجريدا فبإمكاننا التفريق أيضا بين العمال المنتجين لأدوات الإنتاج (القسم الأول) والعمال المنتجين لمواد الاستهلاك (القسم الثاني). ومنذ آدم سميث وحيث درجة التأهل المهني تفرق اللغة الانكليزية بين عمال الحرف (trades) والعمل المختص (Skifull labour) والعمال غير المؤهلين (Common labour). أما اللغة الفرنسية فهي تفرق منذ تصنيفات Croizat-Parodi بين العمال المحترفين ذوي التكوين الكامل والقائمين بالعمل المعقد والعمال المختصين ذوي التكوين السريع والميداني غالبا الذين يقومون بعمل لا يختلف كثيرا عن العمل البسيط والعمال غير المؤهلين الذين يتصفون بغياب التكوين ويقومون برفع الأشياء ونقلها وهو عمل لا يستوجب سوى المؤهلات البدنية. وقد اعتمد ماركس خلال أعماله الوصفية الملموسة على تصنيفات قريبة من التصنيفات السابقة وذلك عندما قابل هيئة المختصين المراقبين للآلية العامة للمصنع القائمين بالإصلاحات الضرورية بالعمال المشتغلين على الآلات وبالعمال غير المؤهلين. غير أنه تحدث عندما وضع تحليله في مستوى أكثر تجريدا واعتبارا لمدة التكوين الضرورية عن العمل البسيط وعن العمل المركب وكذلك عن العمال المهرة وغير المهرة الذين يختلفون حسب أهمية نفقات التدريب التي تحتويها قوة عملهم. ويمكن وفقا لكيفية التدخل في سيرورة العمل إيجاد نموذجين من التفريق. يقابل النموذج الأول العمل الفكري بالعمل اليدوي محولا القوى الفكرية للإنتاج إلى سلطة رأس المال على العمل. ويقابل النموذج الثاني العمال ذوي التكوين الشامل والتام القادرين على التدخل خلال كامل عملية تطور العمل والذي يمثل عريف التعاونية رمزا له، بالعمال المجزئين الذين ينحصر عملهم في لحظة محدودة من سيرورة الإنتاج مثل أولئك الخاضعين لنظام العمل المسلسل. وفعلا «يحول العامل المجزأ [خلال عمله] كامل جسده إلى جهاز آلي ليس له من مهمة غير القيام بالعملية البسيطة والوحيدة ذاتها التي ينفذها طوال حياته». وفي فترة لاحقة اقترح الباحثون المتبنون للنهج الماركسي ولتقاليده، تفريقات أخرى عندما طرحوا تعارضا (بقي محل جدال شديد) بين الطبقات العمالية القديمة والجديدة (ماليه Mallet)، مقابلين عمال الصناعات ذات الإنتاج النمطي بعمال المسارات والوُرَش (كوريا Coriat) مازجين نوع العمل ومنزلة العمل، مقترحين توزيع مجموع العمال إلى عمال أوليين وعمال ثانويين، إلى عمال مستقلين وعمال خاضعين، الخ. وإذا استندنا إلى الوضع العمالي فإن التفريق الذي يتبادر مباشرة إلى الذهن يكون بين العمال المشتغلين والعمال عير المشتغلين. وقد قابل ماركس عبر مصطلحات مزاجية، الجيش النشيط بالجيش الاحتياطي الذي يتفرغ بدوره إلى عديد الأصناف المكونة للفيض السكاني المتذبذب والمستتر والراكد والبروليتارية الرثة (Lumpenproletariat). وأخيرا ومن منظور اقتصادي فإن التعارض الكبير يقع بين العمال المنتجين الذين يخلقون القيمة الزائدة باستخدامهم لوسائل الإنتاج والعمال غير المنتجين الذين –رغم نفعهم- لا ينشطون إلا ضمن عملية تطور التداول. وبالمعنى الدقيق للمصطلح يمكن أن نعتبر أن العمال غير المنتجين لا ينتمون إلى الطبقة العمالية رغم انتسابهم للعامل الجماعي: إذ لا يساهم عملهم مباشرة في الإنتاج المادي، غير أنهم يشكلون رغم ذلك جزءا من مسار إعادة الإنتاج الرأسمالية الرابطة بين إنتاج البضائع وتداولها.
إن مختلف هذه التصنيفات ترجع في النهاية إلى الرؤى المتباينة التي تكمن وراءها تصورات مختلفة لتقسيم العمل: يقول ماركس: «إذا اقتصرنا على اعتبار العمل ذاته فمن الممكن تسمية تقسيم الإنتاج الاجتماعي إلى فروعه الكبيرة مثل الصناعة والفلاحة الخ بتقسيم العمل عموما وتسمي تقسيم هذه الأنواع من الإنتاج إلى أجناس وأصناف بتقسيم العمل خصوصا، وأخيرا نسمي تقسيم العمل داخل الورشة بالعمل التفصيلي». ولكن تجدر الإشارة خاصة إلى أن تطور القوى المنتجة يغير حجم مجموع العمال نفسه (بلترة) ويقلب باستمرار تركيبته الداخلية. وقد بين ماركس بعض هذه التغييرات عند تحليله لعملية الانتقال من التعاونية البسيطة إلى المانيفاكتورة وإلى الآلية. كما حلل أتباعه من بعده وبدورهم التغييرات التي استحفزتها بالأمس التيلورية والفوردية وتستحفزها اليوم التألية (التأليل) في ظل الثورة العلمية والتقنية مبرزة هكذا حركة التأهل/عدم التأهل التي قد تميز المجموعة العمالية في المرحلة المعاصرة. وبالإضافة إلى هذه الظاهرة وفي أفق اقتصادي يمكن إثارة ظاهرتين أخريين. تتمثل الظاهرة الأولى في تلك التي يمكن ملاحظتها في تغيير العلاقات بين العمل ومادة الإنتاج إذ يبدو أن تنظيم العمل يؤدي إلى انتزاع متزايد لمهارة العامل ولمعارفه وهو ما عبّر عنه التأنيب الشهير الصادر عن تيلور عندما قال: «لستم هنا لتفكروا». وفي الوقت نفسه فإن عملية تطور العمل الخاضعة لقانون الجتمعة المتزايدة تعطي لصورة العامل الاجتماعي واقعا راسخا أكثر فأكثر. أما الظاهرة الثانية فهي تخص الأجرة المخصصة لتجديد قوة العمل. فإذا كان الأجر يحدد في إطار الرأسمالية مبدئيا بقيمة قريبة من قيمة قوة العمل فإن مسارات عديدة تدفع إلى خلق فوراق دائمة إلى حد ما. ويمكن أن تتم جزئيا عملية تجديد قوة العمل عند التركيبات الاجتماعية السائرة في طريق الانتقال إلى الاشتراكية عبر الفئات ما قبل الرأسمالية، وبذلك يبقى الأجر دون قيمة قوة العمل. وعندما ترمي الآلية بالنساء وبالأطفال في مصهر التصنيع فإن قيمة قوة العمل تتقلص نظرا إلى أن نفقات تجديد هذه القوة أصبحت موزعة بين عدد كبير من العمال. وفي العالم المعاصر يمكن أيضا أن تدفع الجتمعة المتزايدة لتجديد قوة العمل إلى تباين أجرة قوة العمل عن قيمتها. وبالعكس يمكن للأجرة أن تحتوي على بعض عناصر القيمة الزائدة وهو ما ينطبق عامة على كوادر التسيير والإدارة الذين لا ينتسبون في الواقع إلى صنف العمال، وكذلك على الارستقراطية العمالية التي بإمكانها الانتفاع بجزء من إعادة الأرباح الاستعمارية الزائدة، وفي نظرنا يمكن حصر فائدة التحاليل الاجتماعية والاقتصادية لوضعية العامل التي قام بها ماركس في ثلاثة اتجاهات وهي على التوالي اصطلاحية، تجريبية وموضوعية. وقد وجدت طبعا عند ماركس ترددات حول الألفاظ المستعملة، غير أن التحول الاصطلاحي الذي نلاحظه بالمقارنة مع من سبقوه، يبدو لنا ذا قيمة، حيث إنه في حين كان الاشتراكيون إلى ذلك التاريخ يتوجهون إلى الفقراء وإلى الشعب فإن التحول في ميدان علم الدلالة الذي ظهر عند برودون المتحدث عن الطبقات العمالية وعن المنتجين ينقلنا من دائرة التداول إلى دائرة الإنتاج. ثم إن الانتقال إلى استعمال المفرد (الطبقة العمالية) الذي ميز ماركس كان مقصودا: فهو يوضح لنا كيف يرمي التصنيع فعليا في المصهر الواحد بأفراد قادمين من كل فئات السكان ويجانسهم مبدلا كلية غير متميزة بوحدة عضوية. وقد ألح ماركس في عدّة مناسبات على أن الآلية بتبسيطها الأقصى لتقنيات الإنتاج توحّد مختلف الفئات وتؤسس «طبقات العمال العصريين الذين لا يعيشون إلا كلما وجدوا الشغل، والذين لا يجدون الشغل إلا كلما نمّى هذا الشغل رأس المال». ومن ناحية ثانية تأتي فائدة كتابات ماركس من المواد والأدوات التجريبية التي استعملها. وفي الواقع لا يعني هذا تجديدا كاملا إذ إن التحقيقات العمالية تعددت في منتصف القرن وأشهرها تحقيق Villermé. وقد عمق ماركس ما قام به إنجلس من وصف أورده في «وضعية الطبقة الكادحة في انكلترا» وأثراها معتمدا كثيرا على تقارير مفتّشي المصانع الانكليز وذلك سواء عند وضع الكتاب الأول من مؤلف رأس المال أو عند كتابة مؤلف الغروندريسه (Grundrisse) وأوضح أنه لا يمكن تحليل العلاقات الطبقية بمعزل عن المستوى الذي بلغته القوى المنتجة المادية منها والبشرية. بل أكثر من ذلك قام ماركس وهو غير راضِ بالأدوات المجمعة من قبل أسلافه والتي استعملها –يوم 20 نيسان/أبريل 1880- في تحقيق عمالي واسع في المجلة الاشتراكية حيث سحب النص في 25 ألف نسخة وكان يهدف إلى توفير «معرفة صحيحة وايجابية للظروف التي تعمل فيها الطبقة العمالية وتتحرك في صلبها وهي الطبقة صاحبة المستقبل». وتنقسم الأسئلة المئة الواردة في هذا التحقيق إلى أربع مجموعات: بنية المؤسسة (تركيبة اليد العاملة، التنظيم التكنولوجي والاجتماعي للعمل، سلامة العمل) وشروط العمل (توقيت العمل، تشغيل الأطفال) والوضع القانوني (طبيعة العقد، ترتيب الأجور والقدرة الشرائية الناجمة عنها) والنشاط العمالي (تأسيس النقابات، الإضرابات). ومن ناحية ثالثة، فإن فائدة وتحاليل ماركس تكمن بلا شك في المضمون أساس. فإذا كان صحيحا أن «البحث عن السر الأكثر عمقا وعن الجوهر الخفي لكل نظام اجتماعي يجب أن يكون من خلال العلاقة المباشرة بين مالك وسائل والإنتاج المباشر...»، فإن رأس المال وكامل أعمال ماركس تعتبر تفسيرا وبلورة لهذه العلاقة. ومن حيث إن هذا المؤلف هو نقد للاقتصاد السياسي كان في الإمكان وفي أقصى الحالات إعطاؤه عنوان العامل وذلك ليس فقط لأن رأس المال لا يمثل سوى عمل متراكم بل وخاصة لأن مقابل إيجابية رأس المال «يمثل البروليتاري الجانب السلبي من التناقض» ولأن العلاقات بين رأس المال والعمل، يبن البرجوازي والعامل هي في النهاية علاقات جدلية الوحدة والتعارض.