رسائل الشارع تكشف اختلالات المنظومة الاجتماعية في الجزائر
Tuesday, January 11
الموضوع : الوطــن
ع.طاهير
جريدة صوت الاحرار
الآن وبعد أن استتبّ الهدوء وعادت الأمور إلى نصابها وجب الوقوف عند الكثير من الرسائل التي بعث بها الشارع خلال الأيام الأخيرة، فالقضية في نهاية المطاف لا تتوقف عند حدود الاحتجاج على ارتفاع أسعار السكر والزيت ومواد أخرى يستهلكها الجزائريون بكثرة، بقدر ما هي مرتبطة بمنظومة اجتماعية مُهتزّة ومجتمع مدني غير مستقرّ وشباب »هامل« وأسرة لا تلعب دورها وحكومة تنتظرها الكثير من المسؤوليات.
الرسالة الأولى التي بعث بها الشارع إلى السلطات العمومية، وهو ما يبدو أنها أدركتها خاصة بعد أعمال النهب والتخريب التي طالت كل الممتلكات دون استثناء، تُشير إلى أن الظروف الحالية تبقى مهيّأة لعودة مثل هذه الاحتجاجات العنيفة كلما توافرت المسبّبات لذلك، وهو ما يستدعي من الحكومة التفكير بجدّية في هذا الجانب لتفادي مزيد من الأضرار والأحداث التي قد تكون تداعياتها أكثر عنفا وغير مضمونة العواقب إن تكرّرت، ليس فقط لكونها غير مجرّدة من أي استغلال بعض الأطراف، بل لأن منطق العلاقات الاجتماعية يفرض وجود تضارب في المصالح سواء سياسية أو اقتصادية كانت أو حتى اجتماعية.
فاللجوء إلى العُنف تحديدا من طرف شباب لم يبلغوا حتى سنّ النُضج هو بمثابة مؤشر سلبي يعكس وجود اختلالات خطيرة في المنظومة الاجتماعية، وبالتالي فإن هذه الرسالة تُحيلنا مباشرة إلى التساؤل عن جدوى الأسرة في لعب دورها الاجتماعي المتمثّل في التربية، وأكثر من ذلك فإن الأحداث الأخيرة أثبتت مجدّدا أن المنظومة التربوية في الجزائر بحاجة إلى إعادة النظر لأنها لم تتحمّل مسؤوليتها في »التنشئة الاجتماعية«، بما يعني أن الجانب الاجتماعي التربوي لا يزال مُغيّبا في المدرسة ما نتج عنه هذا الجيل الذي يميل إلى العنف والمهيئ في كل وقت للانسياق وراء أطروحات من هذا النوع.
وعلى هذا الأساس فإن القضية أبعد وأعمق بكثير من مجرّد الاحتجاج على ارتفاع أسعار السكر والزيت ومواد أخرى، فالطريقة التي عبّر بها الجزائريون عن هذا الغضب أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن المشكلة الحقيقية تضرب في الأعماق وهي بحاجة إلى دراسة عاجلة ومتأنية من طرف الحكومة ومؤسسات المجتمع، وأكثر من ذلك فإن الشريحة التي خرجت إلى الشارع بتلك »الوحشية« تكشف بوضوح وجود اختلالات خطيرة في المجتمع الجزائري مطلوب معالجتها بحزم.
فعندما تفرض عصابات من اللصوص والمُدمنين منطقها على شباب يُفترض أن يكون في مستوى الوعي الذي يدفعه إلى الاحتجاج سلميا، مهما كان مستوى إجحاف السلطات في حقه، وعندما يتباهى هؤلاء أمام كاميرات قنوات عالمية بحمل السكاكين والسواطير والمطالبة بالهجرة إلى أوروبا فذلك الدليل بعينه على غياب التكفّل الفعلي بانشغالات هذه الشريحة، كما لا ينفي ذلك فرضية أخرى تتعلق بغياب العدالة الاجتماعية في بلد له من الإمكانيات ما يسدّ به حاجيات سكان قارة بأكملها.
وأمام عمليات النهب والتخريب »المنظّمة« التي استهدفت الكثير من الممتلكات التي تمّ انتقاؤها بإحكام للسطو على أحدث التجهيزات الإلكترونية، تظهر إشكالية أخرى لا تقل خطورة وهي »اللصوصية والإجرام« التي انتشرت بقوة في المجتمع الجزائري، وأصبحت العصابات تفرض سلطتها في كل مكان، فكان من المفترض أن يُساهم تعزيز مختلف أسلاك الأمن من الناحية البشرية في تأمين حياة المواطنين وممتلكاتهم من هذه الشبكات، ولكن ذلك ما لم يحصل رغم أن هذه المصالح استجابت للتعليمات وتفادت المواجهة مع الشباب الغاضب الذي اكتشف غالبيته بأنه ذهب ضحية جهات كانت لها مصلحة فيما تكبّدته مؤسّسات عمومية وخاصة من خسائر فادحة لم تسلم منها حتى مؤسسات التربية والتعليم.
ومن بين أهم الاستنتاجات التي يُمكن الوقوف عندها بعد كل الذي جرى قبل أيام، أن الجزائريين تأكدوا مرة أخرى، وأكثر من أيّ وقت مضى، أنه لا يوجد شيء اسمه »جمعيات« أو »أحزاب«، فالذين كانوا بالأمس يُطبّلون ويهتفون أثبتوا اليوم أنه لا تأثير لهم ولا وجود لهم بالأساس في الواقع، وهو ما يثبت بأن الشباب في بلادنا بحاجة إلى متنفس وإلى حركة جمعوية قوية لا تهتم بجمع واقتسام الريع بقدر ما يتوجّب عليها لعب دورها المجتمعي بعيدا عن الخطابات الديماغوجية في كل موعد انتخابي، ففي المجتمعات التي تحترم نفسها فإن الحسّ المدني تُغذّيه هذه الجمعيات وهو ما لا يحصل عندنا مع الأسف.
هذه المرة انتهى غضب الشارع بسلام رغم بعض الأضرار، ولكن الشرارة التي من شأنها أن تُعيد مجددا سيناريوهات أكثر عنفا في المستقبل لا تزال قائمة، ولذلك فإنه من الضروري الوقوف عند بعض الرسائل التي خلّفتها هذه الأحداث، فالجهات التي يستهويها الاصطياد في المياه العكرة وجدت فجوات ستكون بمثابة أوراق رابحة لها ستستغلها لا محالة مستقبلا من أجل أن تدفع بالشباب البطّال والقُصّر وضحايا التسرّب المدرسي وعصابات الإجرام والمخدرات نحو مزيد من التدمير والتخريب تكون فيها البلاد الخاسر الأكبر والوحيد.