وعلى ما ذكر فإن الاختلاف قد يكون علمياً وقد يكون فكرياً وقد يكون اجتماعياً... ولكل واحد من هذه الاختلافات أدبه الخاص به في كيفية التعامل بين الأطراف المختلفة في الرأي.
وقبل الخوض في أدب الاختلاف لابد من ذكر أمور:
أ. الإسلام دين يحث الجميع على الارتباط بالحياة العلمية وعلى ضرورة التواصل الفكري وهذه واحدة من أهم خصائص ديننا وأمتنا التي هي أمة اقرأ، وأول آية نزلت على الرسول(ص) تخاطبه هي آية القراءة أو العلم (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم.. )16. وتاريخنا يذكر أن الرسول(ص) جعل العلم جعله طريقاً لتخليص النفس من الأسر ذلك لأهمية العلم كما هو الحال مع أسرى بدر، هذا مضافاً إلى حث القرآن على ضرورة التفكر التي هي واحدة من طرق تحصيل المعرفة (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)17. فالتفكير ميزة عبادية تميّز بها بعض المسلمين وحازوا بسببها شرف السبق والمكانة. إلا أن المشكلة الأساسية التي يعاني منها اكثر المنتسبين إلى الحالة الدينية هي الأمية الفكرية والتعويل على الثقافة الجاهزة (المعلّبة) دون التدقيق وإعمال الفكر وهذا بدوره يترك اثراً سلبياً على الفرد ومن ثم على المجتمع ايضا، فكثيراً ما نطلق الأحكام على عواهنها متسلحين بمقدمات فاسدة لا تمت إلى المعرفة بصلة وتاليها يبطل مقدمها، وانتشار هذا النوع من الثقافة والأفكار يؤدي إلى اغفال دور العقل وتعطيل قدرته مما يؤدي إلى ظهور جيل لا يعتمد الدليل العلمي في حكمه على القضايا ومناقشة الرأي الآخر ومقارنة الحجة بالحجة والدليل بالدليل.
وما تراه من بساطة في المستوى الفكري والتفكيري إنما هو نتيجة طبيعية لنشوء هذا النوع من الثقافة والاستئناس بها.
ب. والنتيجة الطبيعية لذلك هو غياب الإنتاج الفكري، وهذا اخطر ما تسببه الثقافة المعلّبة والتعويل على الجاهز مما يجعلنا أمة مستهلكة بدل أن تكون منتجة وبهذا تقف مسيرة الحركة الفكرية عند حدود الموروث الثقافي والاكتفاء به مع أن القرآن يرفض هذا المسلك المشابه لمسلك الاقتداء السلبي بالاباء والاجيال السابقة ورفض الفكر وتفعيل دور العقل هذه الطاقة المودعة عندنا.
مع أن من المهام الملقاة على عواتق الأنبياء(ع) والعاملين في هذا الحقل تكسير الأغلال والصنمية بشكلها العام كما في قوله تعالى (ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم)18 وهذا يدل على خطورة تلك الاغلال ـ الفكرية، والدينية، والثقافية ـ المضروبة على العقل وانطلاقه وحجبه عن الحقيقة. ج. ومن نتائج هذه الحركة الموروثة ظهور حركة الاستبداد الفكري للرأي والانفراد بالحقيقة وقسر الناس عليها وهذا قهر لعقول الآخرين على العقل الواحد وعلى الرأي الواحد، والموقف الواحد مع أن عدم الإكراه حق ضمنه القرآن للجميع (لا إكراه في الدين)19 فإذا كان القرآن يضمن عدم الإكراه في الدين وهو اشرف الأشياء فكيف بالفكر والرأي لما فيه من سلب حرية الاختيار وقدرته على التمييز والاختيار. ثم أن الاستبداد الفكري من افدح الأخطاء التي قد يقع فيها البعض دون النظر إلى غنى تعدد الآراء وفوائدها من التنافس وانضاج الفكر وتعميقه وتطويره من فوائد تعود علينا جميعاً.
ومن هنا تأتي الحاجة إلى معرفة أدب الاختلاف والتعامل مع الرأي الآخر. ويمكن أن نقسم هذه الآداب إلى ثلاثة أقسام:
* أدب التعامل الأخلاقي مع الرأي الآخر.
* أدب التعامل العلمي مع الرأي الآخر.
* أدب التعامل الاجتماعي مع الرأي الآخر.